ففي النفس خطان متقابلان متجاوران لا تناقض بينهما، لأن كل واحد منهما يكمل الآخر، وهذان الخطان المزدوجان هما الالتزام، والتطوع، والإسلام دين الاعتدال والتوازن يجمع بينهما في نظام واحد، ويتجه بهما إلى تحقيق حكمة الحياة وغايتها. فالإنسان يميل بفطرته إلى الالتزام، ومن أجل ذلك شرع الإسلام قدرا ضروريا من الالتزام (أوامر ونواه وحدود) تصلح به حياة المجتمع، وتحفظ نظامه من الفساد.
وينبغي العلم بأن الإسلام لا يحصر تشريعه في الالتزام بالواجب أو الفرائض والحدود، ولكنه يرتفع عن خط الالتزام إلى خط التطوع، بحيث يؤدي الإنسان الأعمال الصالحة، ووجوه البر المتعددة برغبة ذاتية خالصة، تظهر فيها ثمرة الإيمان الحقيقية، وتتجلى قوته وعمقه؛ لذا يفتح الإسلام باب التطوع على مصراعيه، ليفجر ينابيع الخير في النفس البشرية، ويستثمر طاقات الإنسان المسلم في خدمة مجتمعه، متطوعا متبرعا دون فرض أوإكراه، وهذا ينمي حب عمل الخير والرغبة فيه، ويقوي رابطة المجتمع وتماسكه، إلى منافع أخرى كثيرة وجليلة، تنطوي في ظلال قوله تعالى {... فمن تطوع خيرا فهو خير له...} (البقرة:184)، وقوله تعالى {... ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} (البقرة:158).
ومن يتأمل كتاب الله تعالى يجد دعوة قوية دائمة إلى التطوع بفعل الخير والتسابق إليه والمسارعة فيه والتعاون عليه، وكذلك حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام تراها زاخرة بالعمل الصالح والبر بمفهومه العام والتطوع بالخير والتنافس فيه.
والعمل التطوعي هو جانب مهم وأساسي من العمل الصالح، أما من حيث دلالته ودرجته من الإيمان، فهو ذروته السامقة، لأن صاحبه يتطوع به من تلقاء نفسه دون إلزام أو إجبار، والتطوع هو ميدان السبق الذي يظهر السابقين.
العمل التطوعي في الإسلام
أولاً: العمل التطوعي في القرآن:
قال الله تعالى: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " سورة النساء آية 114
فالأمر هنا: عمل تطوعي بدني سواء كان أمراً بصدقة أو أمراً بمعروف والسعي بالإصلاح بين الناس: عمل تطوعي بدني.
وغيرها كقصة نبي الله موسى مع المرأتين راعيتي الغنم
ثانياً: العمل التطوعي في السنة النبوية:
( أ ) عدد مفاصل الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً ويستحب له أن يؤدي شكر نعمة كل مفصل من هذه المفاصل كل يوم بصوره من صور العمل المبارك التالية ( والتي أكثرها أعمال تطوعية )
في صحيح البخاري كتاب الصلح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الناس صدقة }
وفي صحيح مسلم: { كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها ، أو ترفع عليها متاعه صدقة ، قال والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة }
(ب) وأنه من أسباب إعانة الله للعبد أن يكون في عون أخيه والجزاء من جنس العمل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه } رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد
يمكن أن نستخلص الحوافز والمثيرات ونلخصها في المعددات التالية :
أولاً : وعد الله تبارك وتعالى أهل الإيمان المتطوعين بأعمال الإحسان المسارعين بجنة عرضها السموات والأرض حيث قال الإله الحق المبين : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " .
ثانياً : وصفهم الله من خلال النص السابق بأنهم أهل الإحسان والتقوى .
ثالثاً : وبشرهم تعالى من خلال النص السابق أنه يحبهم " والله يحب المحسنين "
رابعاً : جاءت الشريعة الإسلامية أن كلام الناس وأحاديثهم ومحاوراتهم في مجالسهم ومنتدياتهم ومنابرهم لا خير في كثير منه إلا ما كان مداره على الحديث في نفع الناس وإصلاح ذات بينهم . قال تعالى : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " .
خامساً : وعد الله من تطوع بذلك مبتغياً به وجه الله وطالباً رضاه بالأجر العظيم والعطاء الكثير الجزيل الواسع والجزاء المضاعف أضعافاً كثيرة . قال تعالى: " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما "
سادساً : أن العمل التطوعي عبادة عظمى اسمها الشكر لنعم الله على عبده من صحة وعافية وحواس سليمة وبدن معافى والإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر ، والشكر الحقيقي هو ما اجتمع فيه قول اللسان وعمل الجوارح بكفها عن معصية الله وبذلها في طاعته قال تعالى : " اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور " وقال تعالى : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " وقال صلى الله عليه وسلم : { كل سلامى من الناس عليه صدقة }
سابعاً : اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بالأعمال التطوعية حتى أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها من نفسه وقلبه ولفظه وعدد منها وهو الذي أوتي جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه إحدى عشرة صوره من صور العمل التطوعي في حديث واحد ترغيباً إليها وحثاً عليها ورفعاً لشأنها الذي ربما كان في عيون الناس حقيراً.
وإلى لقاء آخر مع نماذج من الأعمال التطوعية التي قام بها حبيب قلوبنا وقدوتنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا
استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
???? زائر
موضوع: رد: العمل التطوعي في الإسلام الأربعاء 01 سبتمبر 2010, 4:44 am
أمثلة وقدوات في العمل التطوعي في صدر الإسلام
زيادة على ما مضى التنبيه عليه من الأمثلة المشرقة من سير الرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم والصالحين عليهم رحمة الله من القرون الخالية .
نذكر نفحات معطرة من شذى السيرة العطرة لخير البرية وأزكى البشرية نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم : والمراد الإشارة لا الإحصاء
المثال الأول : مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة: من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ( الصخور ) وكانت غير مسقوفة إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل سدلاً ، وكان الركن الأسود موضوعاً على سورها تأدباً ، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة .. .. إلى أن قال : فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً ، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ، فضاقت عليه النمرة ، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة ، فنودي يا محمد خمر عورتك فلم ير عرياناً ، وكان يرى بين الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين ، وبين مخرجه وبنيانها خمس عشرة سنة . أخرجه الطبراني في الكبير وأحمد طرفاً منه ورجالهما رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد .
المثال الثاني : وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود في مكانه : فقد روى علي رضي الله عنه (( أنه لما أرادوا أن يرفعوا الحجر (( يعني قريشاً )) اختصموا فيه ، فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم ، فجعلوه ( أي الحجر ) في مرط ثم رفعه جميع القبائل كلها ، ورسول الله يومئذ رجل شاب يعني قبل البعثة وفي رواية (( لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد جاء الأمين )) . قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح . ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
المثال الثالث : شهادة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصور كثيرة من صور العمل التطوعي : وذلك أنه لما رأى جبريل عليه السلام ونزل عليه بقول الله تعالى : " اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم " رجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة ، وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .. الحديث (متفق عليه)
المثال الرابع : مشاركته عليه الصلاة والسلام وهو غلام مع عمومته حلف الفضول : وحلف الفضول كما قال محمد بن إسحاق : أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان لشرفه وسنه . وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبدالمطلب وبنو أسد بن عبدالعزى ، وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة . فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه ، وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته فسمت قريشاً ذلك الحلف حلف الفضول . قال صلى الله عليه وسلم : { شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم ، وأني أنكثه } أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح وقال الساعاتي في الفتح الرباني : الحديث إسناده صحيح .
المثال الخامس : مشاركته صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد النبوي : لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد جاء أبوبكر بالحجارة وجاء عمر وجاء عثمان وكان الصحابة يحملون لبنة لبنه وعمار يحمل لبنتين لبنتين والنبي صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عنه والصحابة رضي الله عنهم أجمعين يرتجزون وهم يشاركون في البناء ويقولون :
لئن جلسنا والرسول يعمل لذاك من العمل المضلل
ويقولون : لا يستوى من يعمر المساجدا يذاب فيها قائماً وقاعدا ومن يرى عن الغبار حائرا وبني المسجد باللبن ، وسقفه بالجريد ، وعمده خشب النخل .
المثال السادس : نزول النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في قبر ذي البجادين ومشاركة في دفنه : من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يحدث قال : (( قمت من جوف الليل ، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ، فاتبعتها أنظر قال : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر ، وإذا عبدالله ذو البجادين قد مات ، وإذا هم قد حفروا له ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته ، وأبوبكر وعمر يدليانه وإذا هو يقول : (( أدنيا إليَ أخاكما )) فدلياه إليه ، فلما هيأه لشقه ، قال : (( اللهم إني قد أمسيت راضياً عنه فأرضى عنه )) قال : يقول ابن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة . أخرجه ابن منده ، والبغوي وأخرجه بن إسحاق في السيرة
هذه بعض المواقف من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونترككم على أمل أن نلقاكم مع مواقف من حياة الصحابة رضوان الله عليهم
استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مروة أبورواش بدون لقب
عدد المساهمات : 4 تاريخ التسجيل : 13/01/2011
موضوع: رد: العمل التطوعي في الإسلام الخميس 13 يناير 2011, 6:34 pm
جزاكم الله خيرا
???? زائر
موضوع: رد: العمل التطوعي في الإسلام الخميس 13 يناير 2011, 7:38 pm